• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أهمية الثقة بالنفس للنجاح في العمل

يوسف ميخائيل أسعد

أهمية الثقة بالنفس للنجاح في العمل

 ◄ليس من شك في أنّ الإيمان بالقدرة على أداء العمل لمن أهم العوامل المؤدية إلى النجاح في أدائه. ذلك أنّ الشخص الذي لا يستطيع أن يؤمن بقدرته على الأداء لا يستطيع بدوره أن ينهض بأعباء العمل المطلوب أداؤه منه. فإحساس الشخص بالقصور عن أداء العمل ينتهي به إلى التخاذل، ومن ثمّ فإنّه لا يستطيع أن يبذل الجهد المطلوب لإنجاز العمل. وحتى إذا هو بذل كمية كبيرة من الجهد، فإنّه لا يكون جهداً مصوباً التصويب السديد نحو أداء العمل باتقان، بل يأتي تصويبه لجهده مشتتاً وبعيداً عن المرمى الصحيح.

ولا يكفي أن يكون الشخص ملماً بالعمليات المعرفية وبالمهارات اللازمة لأداء العمل، بل يجب إلى جانب ذلك – وأهم منه – أن يكون مشحوناً بالإيمان بنفسه وبقدرته على الأداء. وشاهد ذلك أنّ كثيراً من الناس الذين كانوا متميزين بالقدرة الفائقة على أداء العمل، صاروا – لسبب أو آخر – غير واثقين بأنفسهم، ومن ثم فإنّ مدى قدرته على النهوض بما كانوا يتقونه من أعمال قد ضعف، وصاروا غير أهل لثقة رؤسائهم والعاملين معهم في نفس المضمار.

وعلى الرغم من أنّ أولئك الأشخاص الذين فقدوا الصلاحية للأداء السليم ما يزالون متمتعين بالجوانب المعرفية، وما يزالون متمكنين من المهارات التي سبق لهم التمرس بها، فانّهم بالفعل صاروا غير صالحين للنهوض بالمسؤولية التي كانوا أكفاء لها ذات يوم. وليس من سبب يفسر هذه الحالة سوى أنّهم كانوا في السابق متلبسين بالثقة بأنفسهم، بينما صاروا في حالتهم الراهنة منعدمي الثقة بأنفسهم، وبالتالي فقد فترت همتهم وخارت عزائمهم، وذبل حماسهم للعمل، وصاروا عاجزين نفسياً ووجدانياً عن التكيف لما كانوا متكيفين له قبلاً من فنون ومهارات وعلاقات اجتماعية.

وأنت في حياتك اليومية تجد أنّك إذا لم تبث الثقة في نفسك كلّ يوم بأنّك قادر على أداء العمل على خير وجه، فإنّك لا تستطيع إذن مواصلة عملك بالكفاية المطلوبة، بل إنّك سرعان ما تجد نفسك واهن العزيمة، فاتر النشاط ومشتت الفكر، إذ أنّك لا تجد لديك الدافع الوجداني الذي يحفزك على بذل الجهد بنشاط وهمة وانتظام.

والواقع أنّ الابتكار في العمل بحاجة شديدة إلى الثقة بالنفس. ذلك أنّ مثل ذلك الابتكار يحتاج إلى تفتيق المواهب الذهنية وإلى شحذ الهم وامتلاك ناصية الفكر الابتكاري وسبر أغوار المجهول في نطاق الحياة العملية المتعلقة بالعمل المنوط بالشخص. والابتكار نفسه هو شقّ طريق جديدة لم يسبق لأحد أن اختطها لنفسه. ولا يتسنى لأحد أن يشقّ طريقاً جديدة ما لم تكن الثقة بالنفس متوافرة له، وما لم يكن قد أفعم بالشجاعة التي تمكنه من عدم الاحجام ثم الضرب بالسهم الوافر في طريق المجهول الذي لم يرتده أحد من قبل.

وحتى إذا كانت الاستعدادات للابتكار في العمل متوافرة، فمما لا شكّ فيه أنّ إخراج تلك الاستعدادات من حيز الكمون إلى حيز الفعل بحاجة شديدة إلى عامل آخر وجداني هو الإيمان بالنفس، ودعم الكائن بالقوّة النفسية، أعني بالإيمان والحماس، بحيث يخرج ما هو كامن بالقوّة إلى حيز الوجود بالفعل.

ولكي يكون العمل ناجحاً يجب أن يكون الشخص القائم به متمتعاً بالاتزان الانفعالي. والاتزان الانفعالي هو حالة بين التوتر النفسي، وبين الرخاوة النفسية المفضية إلى اللامبالاة. وغني عن القول إنّ التوتر النفسي يشل حركة الشخص عن مواصلة العمل بنجوع. ذلك أنّ التوتر النفسي بمثابة شل لحركة النشاط وضرب للشخصية في الصميم وانحراف بها عن جادة الصواب.

والواقع أنّ الاتزان الانفعالي هو حالة تجمع في نطاقها شيئاً من التوتر وشيئاً من الإرتخاء مما يسمح للمرء بتوجيه دفة نشاطه النفسي أو طاقته الوجدانية والعقلية الوجهة الإيجابية السليمة مما يسمح له بالإنتاج المثمر فيما يمارسه من أعمال، وفيما يقوم به من مجهودات، وفيما يستهدفه من أهداف قريبة أو بعيدة.

والعلاقة بين الاتزان الانفعالي وبين الثقة بالنفس علاقة وثيقة للغاية، بل يمكنك القول بأنّ الاتزان الانفعالي هو حالة من حالات الثقة بالنفس. فما من شك في أنّ الشخص المتزن انفعالياً هو شخصية رزينة هادئة التفكير، غير مندفعة فيما تصدره من أحكام، وغير متهورة فيما تقبل عليه من تصرفات. إنّ الشخصية المتزنة انفعالياً شخصية تحترم نفسها، وتمسك بمقاليد تصرفاتها، ولا تندفع في قول متهور تندم عليه، ولا تتورط في تصرف تؤنب ضميرها على إتيانه.

وثمة جانب آخر من جوانب الثقة بالنفس هو التعاون مع الآخرين في أداء العمل. ذلك أنّ التعاون مع الآخرين هو قدرة تتمتع بها بعض الشخصيات الواثقة في أنفسها. أما الشخصيات التي تعوزها الثقة بالنفس فإنّها تحجم عن التعاون خوفاً من أن تتهم بأنّها ضعيفة، وبأنّ الآخرين يسيطرون عليها ويمسكون بقيادتها، ويحددون خطواتها. وإنّك لتجد أشد الرؤساء عتوا وتجبراً واستئثاراً بكلّ شيء في أيديهم هم أبعد الناس عن الثقة بأنفسهم. الشخص من هذه الفئة يخشى من افتضاح أمره، فيتجه إلى المغالاة في الإمساك بزمام الأمر والتقوقع حول نفسه وعدم الاستضاءة بمشورة الآخرين أو بخبرتهم، والرغبة في القيام بكلّ العمل حتى تفاصيله الفرعية التي كان من الممكن إسنادها إلى الآخرين، أو التعاون معهم في أدائها على الأقل.

وانعدام الثقة بالنفس تدفع بالشخص إلى إثبات وجوده في كلّ صغيرة وكبيرة، بحيث لا يستطيع أن يجعل من نفسه جندياً مجهولاً في موقف ما من المواقف المتصلة بالعمل. إنّه لا يستطيع أن يتحرك أو أن يبذل جهداً إلّا إذا أشير إليه بالبنان واعترف له بالفضل، ولذا فإنّك تجد الشخصيات المفتقرة إلى الثقة بالنفس في حاجة دائمة إلى كيل المديح لهم وإلى نيل الثناء من الآخرين. فهم لا يستطيعون بذل جهد أو الاستمرار في أحد الأعمال إلّا إذا حصلوا على المكافأة الضرورية لذلك والمتمثلة في الحصول على المديح والتقريظ. نعم إنّ كلّ إنسان يحب أن يستمع إلى الثناء على أعماله، ولكن يجب ألا يكون الثناء شرطاً جوهرياً للعمل، بل يجب أن يكون عاملاً مساعداً فحسب للاستمرار والدأب وبذل الجهد وتحمل الصعوبات.

وليس أحد يشك في أنّ اتقان العمليات المنوطة بالمرء لا يتأتى إلّا عن طريق الثقة بالنفس. فالشخص الذي لا ينجز من عمله إلّا القشور دون اللب هو في حقيقة سيكلوجيته شخص مفتقر إلى الثقة بالنفس. ذلك أنّ الثقة بالنفس هي التي تساعد الشخص على سبر أغوار العمل والوصول إلى أهدافه ومراميه الحقيقية. فيكون تناوله للعمل لا كأشياء ظاهرية أو كقشور، بل كجوهر يراد الغوص إليه والوصول إلى كنهه.

وإنّك لتجد الشخص غير الواثق بنفسه يهتم بتفاصيل العمليات ولا يكاد يمسك بالخطوط العريضة في العمل الذي يضطلع به. أمّا الشخص الواثق في نفسه، فإنّه يبدأ بالأصول وينتهي منها إلى الفروع. وثقته بنفسه تجعله غير مشتت بين الأصول والفروع، بل يظل دائماً ممسكاً بلب العملية، ولا يكون تطرقه إلى الفروع شاغلاً له أو ملهياً عن إمساكه بالأصول.

ثمّ إنّ الثقة بالنفس تحمل الشخص على ترك بصمته الشخصية على ما ينجزه من أعمال، وعلى ما يحمله على عاتقه من مسؤوليات. والواقع أنّ هناك فوارق فردية بين الناس تحول دون تطابق الأفراد فيما ينتحون إليه من أداءات وفيما يولون وجوههم إليه من اهتمامات. ولكن مع هذا فإنّ التطابق يمكن أن يتم تحقيقه بين الأفراد فيما ينتهجونه من أعمال وفيما يتحملون عبأه من مسؤوليات. ولكن ثمن هذا التطابق هو فقدان الأصالة الشخصية، ومن ثمّ فقدان الثقة بالنفس.

وليس من صالح الحضارة في المدى البعيد أن تنمحي الفروق الفردية في الأداءات. نعم إنّ التطابق يمكن أن يؤدي إلى يسر في الأداء وإلى تعارف سهل ميسور على طريقة تنفيذ الأعمال. ولكن يجب مع هذا أن تتاح فرصة للتعبير عن النفس بإزاء كلّ عمل مهما كان مصبوغاً بالروتين والرتابة. وإذا أنت أتحت للناس منفذاً يجدون ويكتشفون أنفسهم من خلاله، فإنّهم يتمكنون بلا شك من حسن أداء العمل بل وسيتمكنون من إدخال تطورات مفيدة على ما يقومون به من أعمال.

والثقة بالنفس تكسب الشخص وضوحاً في الرؤية في العمل. ذلك أنّ الإنسان إذا وثق في نفسه، فإنّه يستطيع أن يحس بأنّ العمل الذي يضطلع به إن هو إلّا جزء من ذات نفسه، ومن ثم فإنّه يعمد إلى رؤية نفسه من خلال رؤيته للعمل بوضوح، بل إنّ رؤيته لنفسه والوقوف على مقوماته تشتد وضوحاً ودقة كلما كانت رؤيته للعمل أرحب وأوسع وأدق. ولا يتأتى الشخص هذا إلّا إذا وثق في نفسه، وكانت ثقته بنفسه منعكسة على ثقته بالعمل الذي يضطلع به.

ويستتبع هذا تجديد أسلوب العمل. فلا يكفي أن يضع المرء بصمته على عمله الذي يقوم به، ولا يكفي أن تكون رؤيته للعمل واضحة، بل يجب أيضاً أن يسير هذا كلّه مع مبدأ التجديد في الأسلوب. فالواقع أنّ ممارسة العمل تكسب الشخص – إذا كان واثقاً في نفسه – قدرة على تطوير أسلوب الأداء، وتجعله كفئاً للنظر من زوايا جديدة لم يكن يمكنه أن ينظر من خلالها قبل ذلك. ولكنه بالممارسة، وبالاندماج المتأتي عن الثقة بالنفس والثقة في العمل، يستطيع استكشاف مناهج جديدة يمكن أن يؤدي بها العمل على أفضل مما يتسنى بالمناهج المتبعة حالياً. بيد أنّ المناهج الجديدة تكون بالضرورة تطوراً طبيعياً وإنسياباً تلقائياً للمناهج القديمة كما ينساب الجدول بمائه في مجرى طبيعي ينحته ويشقه لنفسه.

ولاشكّ أنّ التجديد يصير خصباً إذا ما تآزر مع ممارسة النقد الذاتي ومع تقبل النقد الذي يوجهه الآخرون إلى الشخص. فبغير أن يعمد الشخص إلى نقد ذاته، وبغير أن يتشوف إلى نقد الآخرين له، فإنّه لا يستطيع أن يتطور. وليس بخافٍ أنّ ممارسة النقد الذاتي، وتقبل نقد الآخرين بحاجة إلى مستوى كبير من الثقة بالنفس.

فإذا لم تتوافر ثقة الشخص بنفسه فإنّ نقده لنفسه يتحول إلى وسواس يمتلك ناصيته ويأخذ بتلابيبه، ويأسر فؤاده. ومن ناحية أخرى فإنّ الثقة بالنفس إذا لم تتوافر للشخص، فإنّ نقد الآخرين له سرعان ما يستحيل إلى تجريح يثلم شعوره ويفت في عضده ويسحق معنوياته. وأكثر من هذا فإنّ نقد الآخرين سرعان ما يحيل الشخص إلى أسير للأهواء ومطواعاً لكلّ ما يقال. فهو إذن يصبح كرة تتقاذفها أهواء الناقدين، أو يصير قشة في مهب كلّ ريح، فريح تعصف به إلى اليمين، ثمّ ريح أخرى تعصف به إلى الشمال. وقد صار مسلوب الإرادة مسلماً قياده للآخرين بغير أن يكون له ذاتية يستند إليها.

أما الواثق بنفسه، فأنّه يتخذ من النقد الذاتي ومن نقد الآخرين له ذرائع تصحيحية وتطويرية. ولكن بحيث لا يفلت القياد من بين يديه، وبحيث يكون هو الفيصل وهو المحرك للتعديلات والتطورات التي تقع في نطاق شخصيته وفي ثنايا تصرفاته. فالواثق في نفسه يظل المالك الوحيد للقرار الذي يصدر عنه. وهو الذي يعدل من سلوكه بمشيئته وباقتناعه الشخصي. ولذا فإنّ النقد الذاتي والنقد الصادر عن الآخرين يكون بالنسبة للواثق بنفسه كالطعام على المائدة. إنّه موضوع أمامه على مائدة النقد، ولكن ليس من أحد يجبره على تناوله. إنّه يتناوله إذا أراد، ويتركه أيضاً إذا أراد. فهنا إذن توجد عملية انتقائية على أعظم جانب من الأهمية حتى يظل الشخص قلعة حصينة، وذاتية مستقلة، وشخصاً واثقاً في مقوماته وفي تماسك وجدانه وعقله وخبراته الماضية والحاضرة وآماله ومطامحه الرانية إلى المستقبل.

والشخص الواثق في نفسه دائب التعلم. إنّه ينموّ خبرياً بصفة مستمرة، ولا ينكص عن الجديد. ولكن الجديد بالنسبة إليه ليس إقلاعاً إذن عن القديم الذي سبق له تعلمه، وليس في نفس الوقت إضافة إلى القديم كما تضاف الرقعة إلى الثوب القديم، وإنّما الجديد المستوعب هو تفاعل بين ماضٍ وحاضر ومستقبل. إنّه استمرار إلى مجهول بدءا من معلوم، أو هو تحقيق التطور بعد التسلح له بالجديد من الأدوات والذرائع والآلات. والخبرة الجديدة في الواقع هي سلاح جديد لتحدي التطور المأمول. والمتحدي هنا هو الشخص الواثق بنفسه بفضل امتلاك الأدوات والآليات الجديدة التي تسلح بها وتمكن من استخدامها وتطويعها لخدمته.

وتتضح ثقة الشخص بنفسه في علاقاته بالمشتركين معه في أداء العمل. فالشخص الواثق في نفسه يعرف جيداً كيف يكون الرئيس المهيمن لا بالضغط الخارجي الآلي ولا بالأوامر الجوفاء النابية، بل يبث روح الحماس في دخيلة العاملين معه والواقعين تحت إمرته. كذلك يعرف الشخص الواثق بنفسه كيف يكون مرءوساً محترماً لرئيسه بغير تخاذل أو امتهان لكرامته وكيف يؤدي واجبات وظيفته بغير أن يحس بأنّ تلك الواجبات تقهر إنسانيته، بل بالإحساس بأنّه المسيطر على مهام تلك الوظيفة. ويعرف الواثق بنفسه أيضاً كيف يكون زميلاً صالحاً متعاوناً مع زملائه بغير مداهنة أو مجافاة أو لا مبالاة.►

 

المصدر: كتاب الثقة بالنفس

ارسال التعليق

Top